Sunday, July 12, 2015

لعلهم يتفكرون .... لعلهم يعقلون



لعلهم يتفكرون .. لعلهم يعقلون
الله سبحانه وتعالى خاطب أُولي الألباب وأولي النهى في كثير من الآيات لعلهم يتفكرون , وخاطب الذين آمنوا لعلهم يعقلون , فهل هناك خصوصية في هذه الآيات التي تنتهي بهذه الكلمات , هذا ما سنحاول التفكر فيه في هذه السطور لعلنا نعقل ما يريد ربنا أن يهدينا إليه .
نبدأ هذا التفكر بملاحظة أن الله سبحانه وتعالى لم يستعمل كلمة (يفكرون) أو كلمة (العقل)  في القرآن الكريم ولا مرة واحدة , وكثيرا ما استخدم كلمة القلب ليدل على العقل ، مثل قوله سبحانه وتعالى " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " (الحج : 46) ، ثم نحاول بعد ذلك أن نوضح الآيات التي تخاطب أولي الألباب وأولي النهى وتدعو إلى التفكر وتخاطب الذين يعقلون ونعرضها كمجموعات في التالي:
المجموعة الأولى : الدعوة إلى التفكر في آيات كتاب الله المرئي (الكون)
قال تعالى : "إن في خلق السموات الأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"
 (آل عمران :190- 191)
وقال تعالى " وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات وجعل فيها زوجين اثنين إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (الرعد :3 ، 4)
وقال تعالى " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( النحل : 11 ).
وقال سبحانه " ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " (النحل : 69)
وقال جل شأنه "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون "  (الروم:8)
وقال تبارك اسمه " ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماءا فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (الروم : 24 ).
وقال تعالى " واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " (الجاثية : 5 ).
وقال تعالى " وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " (الجاثية:13)
    والتفكر عبادة عظيمة غفل عنها كثير من الناس ، وقد قال بعض سلفنا أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة ، إذا كان التفكر سيؤدي إلى زيادة الإيمان وإذا كانت العبادة تتم بطريقة روتينية لا تزيد الإيمان , وفي هذه الآيات بنبهنا الله إلى ما ينبغي أن نتفكر فيه مثل :
خلق السموات والأرض – الله تعالى ما خلق كل هذا باطلا سبحانه , وإنما خلقه لنتعبد إلى الله بالتفكر فيه ولكن الحال أن عبادتنا تتم بطريقة روتينية لا تزيد الإيمان .
مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا – وهذا تنبيه إلى التفكر في آية المطر وكيف يسوقه الله إلى الأرض الميتة فيحيها , والتفكر في آية الإثمار وكيف ضربها الله مثلا للحياة الدنيا ، فهي كماء أنزله الله من السماء فاختلط به نبات الأرض , فينبت ويخضر وينع ثم يصبح هشيما تذروه الرياح , وكان الله على كل شئ مقتدراً , والتفكر في آية التزاوج وأن الله جعل من كل شئ زوجين , وهذا التزاوج هو الذي ينتج عنه حياة جديدة , والتفكر في كيفية أن في الأرض قطع متجاورات تسقى بماء واحد فتخرج ثمرات مختلفة اللون والطعم , ونفضل بعضها على بعض في الأكل فانظر إلى هذا التنوع الهائل في الثمار
الآيات التي نراها يومياً
ثم يوحي ربك إلى النحل أن تأكل من كل الثمرات فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس , وهي آية عظيمة لو تعلمون , ثم آية البرق والرعد , وكيف كان الإنسان قديما يخشاهما إلى أن توصل بعلمه إلى تفسير لهذه الظواهر , ولكن البرق مازال قادرا على أن يصيب به من يشاء ، وفي نفس الوقت يجعله الله دليلاً على قرب سقوط الأمطار , ولذا فالناس تترقب البرق خوفا وطمعا , وكل هذا رزق من السماء , سواء المطر أو الرياح المسخرة لتحريك الفلك في البحر أو لإدارة الطواحين في البر .
والله سبحانه وتعالى سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه , فهل سنتفكر ونشكر ؟
المجموعة الثانية : التفكر فيما حدث للسابقين للاعتبار والعظة
قال تعالى " فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون " (البقرة :73).
وقال تعالى "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون " (البقرة :171)
وقال سبحانه وتعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " (آل عمران:7)
وقال سبحانه وتعالى " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب , ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " (يوسف : 111)
وقال جل شأنه "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما تأكل منه الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليعا أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون "  (يونس:24)
وقال تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون "  (النحل : 43-44)
وقال تعالـــى " أفلم يهد لهم كم أهلكنــا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهـــم إن في ذلك لآيات لأولي النهى " (طه : 128)
وقال تعالى " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " (الحج :46)
لقد أجرى الله المعجزات على الأمم السابقة وعلينا فكيف كانت الاستجابة ؟ ، كان البعض كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء ، كانوا كما قال الله تعالى صم بكم عمي فهم لا يعقلون , وبعضهم - كبني إسرائيل - كانوا ينكرون ما تراه أعينهم , فعندما أمرهم موسى ( عليه السلام) أن يذبحوا بقرة أخذوا يماطلون في تنفيذ أمر الله , ثم لما ذبحوها ضربوا القتيل ببعضها فأحياه الله لهم ودلهم على قاتله , فهل اعتبروا ؟ ، ثم أن الله شق لهم البحر وحمل الجبل فوقهم كأنه ظله , وبمجرد أن عبروا البحر إلى الشاطئ الآخر ووجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم قالوا لنبيهم اجعل لنا إله كما لهم آلهة , وقالوا له أرنا الله جهرة , وقالوا له إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون , ولذلك لعنهم الله وكتب عليهم أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة  .
وبعض الناس يغتر بعلمه أو بحضارته , ويمضي في تزيين الأرض وزخرفتها , ويرسل سفن الفضاء إلى الكواكب البعيدة , ويسمي إحداها " المتحدي" (challenger) ويصبح خصيماً مبيناً لخالقه , فماذا يحدث ؟ ، " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس" ( يونس : 24 ) , أتاها أمر الله فإذا بسفينة الفضاء تنفجر بعد دقيقتين من إطلاقها وبموت كل رواد الفضاء الذين كانوا على متنها رغم كل إجراءات الأمان , ولكنه التحدي للخالق ، هذا التحدي الذي أورد العبيد المهالك .
وبعض الناس في قلوبهم زيغ , يريدون أن يتبعوا متشابه القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله , ولا يستطيع تأويله إلا الله سبحانه وتعالى , ولو أنهم آمنوا به كله متشابهه ومحكمه لكان خيرا لهم ، لأنه كله من عند ربهم ، وقد جاءت الأقوام السابقة رسلهم بالبينات والزبر والكتاب المنير , وجاؤهم بالآيات الواضحة الصريحة , وأنزل الله إليهم الذكر ليبيَنوا للناس ما نزل إليهم , فكيف كانت الإستجابة ؟ ، فريقا كذبوا وفريقا يقتلون .
فلا بد أن نسير في الأرض فتكون لنا قلوب نعقل بها وآذان نسمع بها , وأن نبصر ونعتبر بما حدث لهم , فننأى عن ما فعلوه ونصدق بآيات ربنا وكتبه , ونقول سمعنا وأطعنا .
المجموعة الثالثة : الاعتبار بما حدث لبعض الناس
قال الله تعالى "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت , كذالك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " (البقرة : 266 )
وقال تعالى " ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " (الأعراف : 176 ).
وقال سبحانه وتعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب " الرعد : 19)
وقال جل شأنه " أولم يتفكروا في أنفسهم ، ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون " (الروم : 8 )
وقال تعالى " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب " (ص:43)
وقال تعالى " أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " (الزمر : 9 )
وقال تعالى " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب " (الزمر :18)
وأول مثل يضربه لنا ربنا لنعتبر به مثل رجل له جنة تجري من تحتها الأنهار , هذه الجنة فيها نخيل وأعناب ومن كل الثمرات , جنة عظيمة , ولكنه أصابه الكبر وله ذرية ضعاف , مظاهر الضعف هذه لماذا ؟ ، ماذا فعل ليصاب بهذا الضعف في نفسه وأولاده ؟ لعله نتيجة لعمله السيئ أو تكذيبه بآيات ربه أو عدم قيامه بواجب الشكر على النعمة التي أنعمها الله عليه ، فأصاب هذه الجنة العظيمة إعصار فيه نار فاحترقت , فاعتبروا يا أولي الأبصار , ولكن من كان صالحاً قيد الله له من يقيم الجدار الذي كان تحته كنز ليبقى لأحفاده حتى يبلغوا أشدهم فيستخرجوه , أبقاه الله لهم لأنه كان صالحا كما ذكر ربنا في سورة الكهف , ولكن الإنسان الذي ساء عمله مهما كانت لديه من متع الدنيا ونعيمها ثم لم يشكر الله فإنها تزول , كما زالت الجنتين ( أيضا في سورة الكهف ) ، لأن صاحبهمـا قال " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا " ( الكف : 36 ).
والمثل الثاني مثل رجل آتاه الله الآيات , ولو شاء الله لرفعه بها إذا اتبعها ولكنه لم يفعل وإنما أخلد إلى الأرض , فضرب الله به مثلا سيئا إذ مثَّله بالكلب , إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث , أي أن الأمر سيان سواء أوعظته أم لم تعظه لن يتعظ , ويقال أن هذه الآية نزلت في واحد من بني إسرائيل آتاه الله نعماً كثيرة , ولكنه أراد نعمة أعظم فطلب من موسى ( عليه السلام ) أن يجعله مستجاب الدعاء , فأعطاه الله ما أراد , فهل إنتفع بهذه النعمة ؟ لا .. بل أخلد إلى الأرض ولم ينتفع بما آتاه الله , ثم يختم الله هذه الآية بقوله فاقصص القصص لعلهم يتفكرون , أي أن القصص القرآني له هدف إيماني وهدف وعظي , ولا بد أن نتدبر في هذه القصص وننتفع بدروسها .
والمثل الثالث هو تشبيه من يعلم الحق ومن لا يعلمه بالبصير والأعمى , فمن يعلم الحق يبصر طريقه ويمضي فيه واثقاً من ربه , ومن لا يعلم الحق لا يبصر طريقا ولا يهتدي سبيلا , وخاطب الله بهذا المثل أولي الألباب وأصحاب العقول الذين يجب أن يستخدموا هذه العقول في معرفة الحق ثم اتباعه , وإلا تحولت نعمة العقل والفهم إلى نقمة .
والمثل الرابع وهو نعمة الله في أنفسنا وهي التي يريها الله لنا مع نعمة في الكون " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ( فصلت : 53 ) لابد أن نتفكر في نعم الله في أنفسنا ، لو نظرنا لنعمة الإبصار وكيف نرى الأشياء والألوان ، ولو تفكرنا في نعمة السمع وكيف نسمع ما حولنا حتى ونحن نيام ، ثم نعمة التنفس والهضم وسائر الوظائف البيولوجية التي تتم دون تحكم من العقل الواعي ، حتى الجلد وكيف نحس بالسخونة والبرودة وكيف يخرج العرق في الحر ليلطف حرارة الجسم ، أما الاكتشافات الحديثة مثل الحامض النووي فهي مبهرة للغاية ، ويتعجب الإنسان كيف أن كل خلية من خلايا جسمه تحمل كل صفاته الوراثية ، حتى أنه أمكن استنساخ نعجة من خلية واحدة ، فجاءت صورة طبق الأصل من أمها.
وأجلَّ نعمة وأكبر معجزة هي العقل البشري نفسه ، فهو قادر على الإتيان بأشياء مذهلة ، سواء في النواحي العلمية من اكتشافات واختراعات ، أو في النواحي الأدبية من شعر وروايات ، أو في النواحي الفنية من رسم وموسيقى ، بالإضافة إلى الابتكارات والتفكير الخلاق ، هذا العقل لو اهتدى إلى الحق فسوف يرفعه الله إلى أعلى من مقام الملائكة ، ولكنه لو استخدم عقله في الضلال والإضلال فسيلقى في جهنم مذموماً مدحوراً.
ولا تكتفي الآيات بضرب الأمثال والاعتبار بالذين تنكبوا طريق الحق ، ولكن الله يضرب الأمثال ويقص قصص الصالحين كذلك لنعتبر بما حدث لهم ، فماذا كان جزاء أيوب (عليه السلام) على صبره على ابتلاء الله للمرض لمدة ثمانية عشر عاماً حيث هجره أهله ما عدا امرأته ؟ ، وهبه الله أهله ومثلهم معهم رحمة منه سبحانه وتعالى وذكرى لأولي الألباب ، وهذا جزاء الصبر في الدنيا ، أما في الآخرة فالصابرون يوفون أجورهم ويدخلون الجنة بغير حساب.
ثم يضرب الله مثلاً بمن هو قانت آناء الله والناس نيام ، يمضي ليله ساجداً وقائماً بن خوف ورجاء ، يحظر الآخرة ويرجوا رحمة ربه ، ومثل الذي يغط في نومه كالذين يعلمون والذين لا يعلمون ، هل يستوون مثلاً ؟ اعتبروا يا أولي الألباب ، من علم وطبق هذا العلم ليس كمن لا يعلم رغم أنه مطلوب منه البحث وطلب العلم ، مطلوب منه أن يسمع القول فيتبع أحسنه ، إن الذين يتبعون أحسن ما يسمعون أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك أولي العقول النابهة والأفهام الصحيحة ، لابد أن يتفكر المرء في ما يسمع فيتبع أحسنه ، ولابد أن يكون مع هذا الإتباع صاحب رأي ، ولا يسير مع الناس إن أحسنوا أحسن وإن أساءوا أساء ، إنما يوطن نفسه أنه إذا أحسن الناس أحسن معهم وإن أساءوا يتجنبهم
وهكذا يجب على اللبيب الاعتبار بما يحدث للناس مسيئهم ومحسنهم ، ويأخذ العبرة بما يحدث لهم في الدنيا قبل الآخرة .
المجموعة الرابعة : التفكر في أسباب التحريم
إن الله ما حرم علينا حراماً إلا لمصلحتنا ، ولابد أن يحاول المرء معرفة مقاصد الشريعة ، صحيح أن الإسلام هو الاستسلام لله بإتباع أوامره واجتناب نواهيه ، ولكن مع ذلك لابد أن يحاول المرء معرفة الحكمة فيما أحل الله وحرم ، ولذلك يعطي الله مثلاً بالخمر والميسر ، بعض الناس يقولون قليلٌ من الخمر يصلح المعدة ، وصحيح أن شرب الخمر في البلاد الباردة تمنع الناس من التجمد برداً إذا لم يكن هناك تدفئة أو ملابس كافية ، وكذلك لعب الميسر ، إذا نظر المرء إلى مدينة لاس فيجاس بالولايات المتحدة وهي التي أنشأتها عصابات المافيا لغسل الأموال ، وكم من فرص للعمل وفرتها للشباب ، وحجم الازدهار الاقتصادي لولاية صحراوية لم يكن لها موارد قبل عمل هذه المدينة فيها ، فسيجد منافع للميسر.
وصحيح أن في الخمر والميسر منافع ولكن أثمهما أكبر من نفعهما ، فالشيطان يوقع العداوة والبغضاء بين الناس عن طريق الخمر والميسر ، والسبب الأساسي لحوادث الطرق بالولايات المتحدة هو شرب الخمر ، وكم من بيوت خربت بسبب الميسر ، لا شك أن إثمهما أكبر من نفعهما ، والله بحكمته ورحمته يبين لنا السبب في تحريمهما لكي نتفكر ، لأن بعض المخدرات تؤدي إلى نفس الأضرار التي تؤدي إليها الخمر ، وبعض المعاملات المالية تشبه الميسر في كونها تخرب البيوت كالمضاربة في البورصة (في هذه الآونة) ، وكذلك يبين الله الحكمة في الإنفاق في سبيل الله ، وهي أن ينفق الإنسان في سبيل الله الزائد عن حاجته وحاجة أولاده ، حتى يظل لديهم ما يكفيهم ولا يسألون الناس ، وما ينفعه سيجده عند الله ، كما قال الرسول الكريم (ص) لعائشة عندما سألها عن الشاة فقالت "ذهبت كلها إلا كتفها" فصحح لها الرسول الكريم (ص) المفهوم الذي عندها للإنفاق في سبيل الله وقال "بقيت كلها إلا كتفها"
المجموعة الخامسة : حكمة الزواج
إن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع ، وحكم الزواج كثيرة : منها أن يجد الرجل والمرأة الزوج الذي يسكن إليه من متاعب الحياة وأوجاعها وصعابها ، وأن يجد في البيت المودة والرحمة التي ينشدها ، فالإنسان اجتماعي بطبعه يسعد بأن يُحِب ويُحَب وأن يرحم ويُرحم ، وعندما يسكن الرجل إلى المرأة وتنشأ بينهما المودة والرحمة بعد الزواج يكون ذلك سبباً في حفظ الجنس البشري ، ولذلك فالزواج شريعة ربانية والرسول الكريم (ص) يحث عليه بشدة حتى ولو لم يكن المرء يملك مالاً وذلك بأن يطلب الرزق في النكاح " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " (سورة النور : 32 )
ولذلك ذكر الله آية الزواج في أول سرد لمجموعة آيات كونية وعن النفس الإنسانية في سورة الروم تعظيماً لشأنه ، فلابد أن نجعل الزواج أيسر شئ وأسهله ، ونجعل الزنا أصعب شئ وأعسره ، حتى نغلق باب شرور لا تنتهي ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، يقول تعالى " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (سورة الروم 21)
المجموعة السادسة : التدبر في كتاب الله
هذا الكتاب هو معجزة الله الباقية ، لأن الرسول (ص) الذي أرسله الله إلى آخر الأمم لابد أن تكون معجزته مستمرة على مر الأيام ، وهكذا يصف الرسول الكريم (ص) هذا الكتاب المعجز " كتاب الله هو الجد ليس بالهزل ، كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل فيقول ، من تركه من جبار قسمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ منه الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لما سمعته الجن قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به هُدي إلى صراط مستقيم "  أخرجه الدارمي في سننه.
هذا الكتاب لا يبلي علي كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ، ويقول الله سبحانه وتعالي عن وزنه وثقله " لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله " ( الحشر : 21 ) الجبل يخشع ويتصدع لو نزل عليه القرآن ، ويضرب الله هذا المثل لعلهم يتفكرون في عظمة هذا الكتاب ويتدبرون آياته " كتاب أنزلنه إليك مباركٌ ليدبَّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " ( ص : 29 ).
المجموعة السابعة : الموت
الموت من الأمور الغائبة الشاهدة ، ومهما أنكر الكافرون وتكبروا عن الحق فإنهم يقفون أمام جلال لحظة الموت عاجزين ، وبالنسبة للمؤمن يمكن أن يكون الموت وزيارة القبور وقوداً لروحه وكابحاً لنزواته وشهواته ، والرسول (ص) يوصي المؤمنين : "أكثروا من ذكر هادم اللذات" (رواه الترمذي) والموت درجتان ، موت مؤقت عند النوم ، وموت دائم عند انقضاء الأجل ، وينبه الله أُولي الألباب أن يتدبروا في النوم ، وكيف أنه الموت الأصغر فيقول " الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " ( الزمر : 42 ) ، وإذا كان للروح بقية من أجل أرسلها ، ولذلك يوصينا الرسول(ص) أن نقول عند نومنا " اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " (رواه الترمذي وأحمد) ، وإن في النوم واليقظة ذكري للموت والبعث ، ولو كان المؤمن له قلب يقظ وعقل يتدبر لقال كلما استيقظ " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" ، ولعلنا نتفكر في هذه الآية ( النوم واليقظة ) التي تحدث كل يوم ، وأحياناً في اليوم مرتين . 
المجموعة الثامنة : هذا بلاغٌ للناس
 أخيراً ننوه أن رسالة الرسول الكريم (ص) كلها ، وكتاب الله المقروء بالذات بلاغ للناس ، حتى ينتبه الغافل ويستيقظ النائم ، والرسول الكريم (ص) نذير للعالمين بين يدي عذاب شديد ، ينذرنا ويبلغنا رسالات ربه ، ويحاول أن يأخذ بحجزنا حتى لا نتفلت منه ونسقط في النار والعياذ بالله ، ولنعلم أنه سبحانه وتعالى إله واحد ، وتعالى الله أن يكون له ولد أو تكون له صاحبة ، ولابد لأولي الألباب من التوحيد الخالص ، وأن لا ينحرفوا عن هذا الإخلاص كما حدث للأمم من قبل ، وليتذكر أولوا الألباب هذا البلاغ دائماً ، " كذالك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون "
هذا ما فتح الله علينا به من التدبر في الآيات التي وجهها الله لمن يتفكرون ولمن يعقلون ولأولي الألباب ، وأؤكد علي ما قلته في البداية أن التفكر في كتاب الله المرئي وكتاب الله المقروء عباده عظيمه يغفلها كثير من الناس ، وأتمنى أن يعود المسلمون إلي هذه العبادة ، وأن يتفكروا في آيات الله في الكون ويتدبروا في آيات الله في القرآن .

سجن استقبال طرة
  يناير 2015
شريف أبو المجد

1 comment: